Powered By Blogger

الأربعاء، 30 يناير 2013

عندما أعادت أم كلثوم العلاقة بين مصر وتونس


الرئيس التونسي في أستقبال أم كلثوم في المطار
من يزور العاصمة التونسية، لا بد أن يقف عند شارع أم كلثوم الموازي لشارع الحبيب بورقيبة والمتقاطع مع شارع قرطاج، والذي لا تفصله إلاّ مسافة قصيرة عن شارع جمال عبد الناصر. فهنا في تونس، تحظى أم كلثوم بحب وإعجاب عامة الشعب، ويترسّخ صوتها وابداعها في الوجدان التونسي كواحد من المكوّنات الأساسية لمعنى التفاعل الإيجابي والتلقائي مع الفن الأصيل والنبيل والجميل.

في أوائل يونية 1968 وفي إطار جولتها العربية الهادفة إلى إسناد المجهود الحربي في مصر بعد نكسة 1967، حلّت كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي بتونس بدعوة من الماجدة وسيلة بن عمّار حرم الرئيس التونسي آنذاك الحبيب بورقيبة.

كان التونسيون في تلك المرحلة يتّجهون بقلوبهم وعقولهم إلى الأمل القومي المنبعث من مصر الناصرية، فرغم الخلاف السياسي بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر، ورغم تأثيرات نكسة يونية 1967 الناتجة عن العدوان الصهيوني على الجمهورية العربية المتحدة، لم ينقطع حبل التواصل الثقافي والحضاري، ولم ترتدّ روح الإنتماء القومي ولا الإيمان بوحدة الجذور والهدف والمصير، خصوصًا وأن الأصوات المصرية وفي مقدمتها أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ كانت فاعلة في إثراء الوعي الجمعي، متوهّجة بعبقرية الإصرار على الحياة والتواصل والإنتصار لأحلام وطموحات الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. ويحسب لأم كلثوم أنها كانت وراء تطبيع العلاقات الديبلوماسية بين تونس ومصر، فهي في نظر التونسيين رئيسًا وحكومة وشعبا، كانت تمثل الزعامة الفنية والصوت الحامل لرسالة بلد وأمة وقضية، وهو ما أكدت عليه وسيلة بورقيبة عند استقبالها لكوكب الشرق بمطار تونس قرطاج الدولي.

أيــام لا تنـــسى


تستعد في المقصورة الخاصة بيها

بعد فرحة النصر والإستقلال في منتصف خمسينيات القرن الماضي، لم يحدث أن تفاعلت الجماهير التونسية مع حدث كبير مثلما تفاعلت مع زيارة أم كلثوم وهو ما يعني المكانة التي كانت تحظى بها المطربة الكبيرة لدى الشعب التونسي من خلال فنها ودورها الثقافي وتعبيرها عن خصوصيات المرحلة.

وفي يوم 31 مايو، وبعد مرور حوالي عام على النكسة أحيت أم كلثوم حفلها الأول بتونس وكأنها أرادت القول أن الإنكسار لن يهزّ إيمان الأمة بحتمية الإنتصار، وقد أراد الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة وعقيلته التأكيد على القناعة بحضورهما الحفل الذي احتضنه قصر الرياضة بالمنزه أو صالة “القبة” كما يطلق عليها.

الورود تغطي المسرح والشدو يملأ أركان الخضراء

الأطلال كانت ساحرة و فكروني قتلت الجميع

الرئيس التونسي و حرمه يستمعان إلي السحر الحلال إلي أم كلثوم
فتاة لم تتمالك نفسها من النشوة الكلثومية


 

في تلك الليلة، أحيط المسرح بمائة ألف وردة، وعلى الساعة التاسعة رُفع السّتار ليجد خمسة آلاف متفرج أنفسهم أمام كوكب الشرق وفرقتها الموسيقية بقيادة الفنان عبده صالح، وقد روى لي أحد المكلفين بمرافقة سيدة الغناء العربي أنها قامت في الكواليس بأداء الصلاة ثم تناولت كوبا من اليانسون الساخن وقرأت سورة الفاتحة قبل بدء السهرة التي أدت فيها أغنيتين هما “فكروني” كلمات عبد الوهاب محمد  والحان محمد عبد الوهاب. ثم أغنية “الأطلال” من شعر الدكتور إبراهيم ناجي وألحان الموسيقار رياض السنباطي.
الحفلة الثانية كانت رائعتي انت عمري و بعيد عنك
الست مع المعجبين بين الوصلات

وفي يوم 3 يونية 1968 وعلى ذات المسرح أحيت أم كلثوم حفلها الثاني الذي أدت فيه أغنيتي “أنت عمري” من كلمات أحمد شفيق كامل وألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب و”بعيد عنك” من ألحان الفنان الكبير بليغ حمدي، ومن ينظر اليوم في رصيد الحفلات المسجلة لكوكب الشرق يكتشف أن تألقها في تونس كان استثنائيا بسبب التفاعل الجماهيري غير العادي وبسبب المناخ السّاحر الذي ميّز مدارج قصر الرياضة بالمنزه، وبسبب حالة الحب العميق التي جمعت أم كلثوم بالتونسيين حتى أنها صرحت في حوار تلفزي أجراه معها الإعلامي الكبير الراحل خالد التلاتلي أن الجمهور التونسي رائع وذوّاق ويتمتع بحاسة إستماع متفوّقة وأنها وأن كانت قد سمعت شهادات كثيرة في ذلك، فإن الحقيقة تجلت خلال زيارتها إلى تونس لتكون أبلغ من النقل والحديث.

عندما يسحر الجمهور

تراوحت أسعار تذاكر حفلتي أم كلثوم في تونس بين 20 و 50 دينارًا ووصلت إلى مائة دينار في السوق السوداء وقد بلغ الحال ببعض المسحورين بحب كوكب الشرق إلى حد بيع أغراضهم المنزلية والإقتراض من المصارف لحضور المناسبة خصوصا وأن ثمن التذكرة كان يساوي أكثر من راتب موظف مرموق في تلك الفترة التي كانت تعتمد فيها تونس تطبيق النظام الإشتراكي.

وانجذاب الجمهور التونسي وإنبهاره بأم كلثوم تجسّد في الإستقبال الشعبي الذي حظيت به منذ نزولها بالمطار وإلى حين مغادرتها البلاد وفي الحفاوة التي لقيتها في الشارع وعبر وسائل الإعلام، وعندما لاحظ الرئيس بورقيبة ذلك وجّه بتعليماته إلى مدير الإذاعة والتليفزيون آنذاك محمد مزالي لبث الحفلين مباشرة عبر أمواج الأثير وعرض التسجيل الفوري على شاشة التلفزيون المحلي.

وفي قصر الرئاسة بقرطاج استقبل الرئيس الحبيب بورقيبة السيدة أم كلثوم وعبّر لها عن ترحيبه البالغ بزيارتها إلى بلاده، وبتقديره الكبير لصوتها وفنها وتجربتها الإبداعية وبدورها في خدمة وطنها والتقريب بين الجماهير العربية، كما قام بتكريمها بوسام الجمهورية من الدرجة الأولى وبدعوتها إلى مأدبة غداء حضرتها زوجته وسيلة وعدد من أعضاء الحكومة.

السيدة أم كلثوم والرئيس التونسي و زوجته يمنحان السيدة أم كلثوم وسام الجمهورية

وفي يوم غرّة يونية 1968 قامت أم كلثوم بأداء صلاة الجمعة بجامع الزيتونة المعمور بأمامة الشيخ مصطفى محسن، ثم قامت بجولة في أسواق المدينة العتيقة حيث استقبلها الجمهور والمتسّوقون استقبالاً حافلاً، وقدّموا لها بعض الهدايا الممثلة في ألوان من الصناعات اليدوية والتقليدية المحلية.

تستعد مع السيدة ماجدة لأداء صلاة الجمعة



كما قامت أم كلثوم بزيارة الشركة التونسية للتوزيع في ضاحية رادس أين كان في استقبالها الرئيس المدير العام آنذاك الناصر بن عمر، وإلى جانبه الأستاذ الهادي السفاري مدير شركة “النغم” المختصة في طبع الإسطوانات وانتاج الأعمال الموسيقية والغنائية، وبدل الإستماع إلى الأغاني طلبت ضيفة تونس المبجلة تمكينها من الإطلاع على التلاوة المحلية للقرآن الكريم، فأسمعها الأستاذ السفاري آيات بيّنات من الذكر الحكيم بصوت الشيخ علي البراق، الشيء الذي نال إعجابها ودفعها إلى القول : هذا هو الأصل في رواية قالون.

وفي حفل عشاء جرى تنظيمه على شرفها بفندق الهيلتون، قدّم الفنان التونسي الكبير محمد الجموسي وصلة موسيقية محلية غنى خلالها أغنيته “قهواجي يدور” ما جعلها تداعبه بالقول : “هي قهوتك لسّه سخنة يا محمد؟ ” كما قام باليه زينة وعزيزة للرقص الشعبي والفنان الكبير الهادي حبوبة بتقديم وصلة نالت إعجاب الضيفة الكبيرة وتميزت السهرة بألوان غنائية تونسية قدمتها المطربتان الشهيرتان علية ونعمة وكذلك بالحضور الهام من قبل أعضاء الحكومة والحزب الحاكم.

شارع يحمل إسمها

تفتتح شارعها في تونس
 في يوم 2 يونيه 1968 قامت أم كلثوم بإزاحة الستار عن اللوحة البيانية للشارع الحامل إسمها في قلب العاصمة التونسية، في حضور عدد من المسؤولين يتقدمهم حسيب بن عمار شيخ المدينة وشقيق الماجدة وسيلة.
تزور شوارع تونس مع حرم الرئيس
نجوي إبراهيم كانت أحدي مرافقي الست في الزيارة


وقد عبّرت كوكب الشرق عن سعادتها بهذه البادرة وعن شكرها الجزيل لتونس قائلة “لا غرابة في هذا… فتونس الخضراء ستبقى ذات زيارة وأسبقية في تكريم الفن والفنانية وفي إحتضان الإبداع والمبدعين”

كانت زيارة أم كلثوم إلى تونس قد وافقت الاحتفال بالذكرى الثالثة والعشرين لعيد النصر، والذي كانت تحييه تونس في ظل العهد السابق، كل أول يونيه تبجيلا واستذكارا لليوم الذي عاد فيه الزعيم الحبيب بورقيبة من منفاه الفرنسي وهو الحدث الذي مثل الخطوة الأهم والأبرز في إتجاه الاعلان هن استقلال البلاد.

وفي برقية عاجلة لوكالة تونس إقريقيا للانباء الرسمية، صدرت يوم الخميس 30 ماي جاء ما يلي “ليس حب الجمهور الكبير في تونس لفن أم كلثوم وليد اليوم، حيث أننا وأن كنّا نشاهد اليوم معظم التونسيين من فنانين وأدباء ورجال فكر وجماهير شعبية، يتابع بلهفة دائمة أغانيها الجديدة فإن هذا لا يمتع من أن فن أم كلثوم القديم من أغان وأدوار ومواويل كان ولا يزال له محبون الشغوفون بسماعه في بلادنا، ذلك أن كل ما تغنت به هذه المطربة العبقرية خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن هو من خيرة ماجاءت به قرائح أساتذة الفن العربي في المشرق، وأضافت الوكالة في أول برقية لها ذات مضمون فني “وسوف لن يكون هذا اللقاء بين أم كلثوم والشعب التونسي أول لقاء مهن نوعه، حيث لها إن إلتقت به من خلال قائده الحبيب بورقيبة زيارته لمصر سنة 1965.

ومساء الخميس 30 مايو 1968 صرحت أم كلثوم أمام كاميرا التليفزيون التونسي التي استقبلتها في قاعة التشريفات بمطار تونس قرطاج الدولي، فقالت ” شعوري وأنا أزور تونس هو شعور المحب وجد حبيبه بعد طول غياب… لقد غمرتموني بالحب وبالزهور، فأنا لا أجد فرقا بين وطني مصر، ووطني تونس الخضراء، سعيدة أنا بكل هذه الأجواء، سعيدة باللقاء الشعبي العظيم وسأسعد أكثر عندما سأقف مغنية للجماهير التونسية” وأضافت “فرحتي لا تعبر عنها كلمات لا تحددها الألفاظ، أنني سعيدة بهذه الزيارة التي ستكون زيارة حب وامل”.

وعما إذا كانت تنوي الغناء من شعر أبي القاسم الشابي شاعر الحرية والحياة في تونس قالت كوكب الشرق ” يسعدني جدا… يسعدني كثيرا… يسعدني بحق ان أغني للشاعر الخالد أبي القاسم الشابي”.

وفي قصر الجمهورية بقرطاج، قامت الماجدة وسيلة بورقيبة باسم الرئيس الحبيب بورقيبة بتوسيم رائدة الفن العربي بالصنف الأكبر من وسام الجمهورية، ثم صرحت أم كلثوم قائلة “يعجز لساني فعلا عن التعبير عما يخالج نفسي من ابتهاج شديد وأنني أرجو من الله تعالى أن يطيل عمر القائد المضفر الحبيب بورقيبة والسيدة حرمه”.

وبمناسبة المولد النبوي الشريف حضرت أم كلثوم  دينيا بجامع الزيتونة المعمور، وفي 7 يونيه 1968 أقام الاتحاد الوطني النسائي التونسي مأدبة غداء على شرف ضيفة البلاد المبجلة بدار حسين بالعاصمة، قدمت خلاله الفرق الموسيقية للاذاعة التونسية وصلات غنائية كما ألقيت بعض القصائد الترحيبية بسيدة الغناء العربي.

تدعو لمصر ان يعجل بنصرها

أما آخر اللقاءات الرسمية مع أم كلثوم فقد نظمها الأستاذ الشادلي القليبي كاتب الدولة للشؤون الثقافية والأخبار، يوم 08 يونيو   بقرطاج، وقد حضرت الحفل وسيلة بورقيبة وعدد من كبار الشخصيات و رجال الثقافة والاعلام ونجوم المجتمع.

وقد تخللت المأدبة لوحات من الشعر والفنون الشعبية والموسيقى التونسية أدتها بعض الفرق لتحية مطرب العرب الأول، وقد اشترك في السهرة الشاعران أحمد اللغماني ونور الدين صمود بأربع قصائد، وتجاوبت أم كلثوم مع بعض القصائد المختارة التي ألقيت على مسمعها وخاصة “صلوات في هيكل الحب” لأبي القاسم الشابي و”عرائس الموج”  لمصطفي خريف. وفي خاتمة السهرة الرسام محمود السهيلي احدى لوحاته للظيفة الكبيرة.

وكانت كوكب الشرق قد ادت زيارة إلى مدينة نابل، اطلعت خلالها على الصناعات التقدليدية المحلية وعلى زي العروس ومميزاته.

يبقى أن نشيرإلى أن الزيارة التاريخية التي أدتها أم كلثوم إلى تونس كانت بمجهود الدولة ورعاية الرئيس بورقيبة وزوجته، بعد أن فشل بعض متعّهدي الحفلات في على القيام بالمبادرة، نظرا لظروف الخلاف السياسي الذي كان سائدًا بين الجمهورية التونسية وجمهورية مصر العربية في تلك الفترة. وقد كان للماجدة وسيلة بورقيبة دور كبير في تحقيق حلم التونسيين بملاقاة أم كلثوم حتى أن الزيارة إتخذت طابعًا رسميا لا يحظى به في العادة غير الملوك والرؤساء.

إذ تم إعداد برنامج الزيارة بمشاركة عدد من الوزارات ذات الصلة مثل الخارجية والإعلام والثقافة وأصرّ الرئيس بورقيبة على توفير كل مستلزمات النجاح للحضور “الكلثومي” في تونس، الأمر الذي كان له بعد أسابيع قليلة بالغ التأثير في تطبيع العلاقات الثنائية بين الحكومتين التونسية والمصرية.

وإلى اليوم مازال شارع أم كلثوم يتوسط العاصمة تونس بالتوازي مع شارع الحبيب بورقيبة، ومازالت الإذاعة التونسية تخصص سهرة كل خميس لصوت كوكب الشرق، ومازالت تسجيلات “الأطلال” و”فكروني” و”أنت عمري” في تونس تحقق أعلى الإيرادات، ومازال كبار السن يتذكرون تلك الأيام الرائعة التي أضاءت فيه “كوكب الشرق” سماء وآفاق البلاد وقلوب وعيون أهلها.







الزيارة في الصحف :- 


ومازالت أم كلثوم عنوان أصالة وعظمة وعبقرية النغم الشرقي الأصيل.
منقوب بتصرف من منتدى سماعى للطرب العربى الاصيل 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق